لماذا يعشق المصريون شخصيتي فاطمة وعبد الغفور البرعي، للدرجة التي تجعل الكثيرين يواصلون مشاهدة المسلسل الشهير “لن أعيش في جلباب أبي” (عام 1996) بالحماس ذاته مرة بعد أخرى، دون كلل أو ملل؟
والحالة ذاتها تنسحب على عدد من المسلسلات مثل “مسلسل فريندز” الأميركي (عام 1996) ومسلسل “حديث الصباح والمساء” (عام 2001) و”عائلة الحاج متولي” (عام 2001) و”ريا وسكينة” حيث تتحول مشاهدة المسلسلات القديمة إلى سلوك قهري!
هل هي جيدة إلى هذا الحد؟
نجح صناع المسلسلات من ذلك النوع، بحسب دراسة أميركية، في صنع ما يمكن تسميته “علاقة طفيلية ناجحة”. ويحدث هذا حين يرتبط المرء بشيء ما من جانب واحد، كما هو الحال مع المشاهير، والشخصيات الدرامية، وبعض الروايات، أو حتى البرامج والأفلام.
ويقول الناقد الفني الدكتور نادر الرفاعي -للجزيرة- إن سر نجاح تلك الأعمال يرجع إلى “التفاصيل الصادقة، الحرفية الشديدة في التناول، التي قدمها كتاب السيناريو بكتابة متقنة، واستكملها الممثلون بأداء متميز، كما هو الحال في مسلسل (حديث الصباح والمساء) وكذلك وجود ثيمات ناجحة، أبرزها الصعود الطبقي، كما هو الحال في مسلسل (لن أعيش في جلباب أبي) وهي ثيمة مشهورة، ودائما ما تنجح في جذب المشاهدين”.
أداة للحنين
لا تمثل المسلسلات الجديدة إغراء يذكر لرشا حمدي، الشابة التي اعتبرت أن مشاهدتها المتواصلة لعدد من المسلسلات مثل “عائلة ونيس” بأجزائه، وكذلك “عائلة الحج متولي” و”لن أعيش في جلباب أبي” هروبا مما وصفته بالغربة.
وتقول رشا للجزيرة نت “المسلسلات حاليا ملية بالعنف، زنا المحارم، الخيانة، أرهقنا الواقع بقبحه، فلماذا نرى أثره في الدراما؟ لهذا أهرب إلى المسلسلات القديمة الجميلة، حيث الأجواء الأسرية المستقرة، والعائلة التي تضم الجيد والسيئ، أشخاص طبيعيون، لديهم قصص نجاح وإخفاق، لن تجد أثرا لطبقات فاحشة الغنى، حيث القصور الفارهة، والخمور والسهرات، ولن تجد صورة قاتمة لقاع المجتمع حيث المخدرات والبلطجة، والألفاظ البذيئة، هكذا أعود في كل مرة لمشاهدة المسلسل ذاته، لأنني أشم روائح الزمن الجميل، زمن أمي وأبي والأشخاص الطبيعيين”.
وهذا بالضبط ما أثبتته دراسة حول دور البرامج التلفزيونية في تعزيز تجربة الانتماء، حيث خلصت إلى أن العلاقات الاجتماعية في البرامج التلفزيونية المفضلة توفر تجربة الانتماء، خاصة في حالات الشعور بالوحدة.
وتؤكد الدراسة -التي أجريت العام 2008- دور تلك الأعمال في الوقاية من سلوكيات غير سليمة مثل انخفاض تقدير واحترام الذات، والمزاج السيئ، والشعور بالرفض، وذلك لأنها تقوي الشعور بالانتماء والقبول، مما ينتج عنه أثر نفسي إيجابي على المرء.
تقلل الشعور بالضغط
لا يتناول إسلام أحمد وجباته المفضلة إلا أثناء مشاهدة واحد من اثنين، إما مسلسل “ريا وسكينة” أو “لن أعيش في جلباب أبي”. يقول “ارتبطت بمسلسل ريا وسكينة بالذات في طفولتي، ارتبطت تحديدا بعدد من مشاهد تناول الطعام، أثناء الضائقة التي مرت على البلاد، ذلك المشهد بالذات حين صار معهم مال، فاشتروا دجاجا، وصار لديهم طبخ لأول مرة، كانوا يأكلون بنهم فظيع”.
ويضيف “لا أتوقف عن مشاهدة هذا المشهد بالذات في وقت تناول الطعام، هذا بخلاف إعجابي الشديد بالطريقة التي تمت بها كتابة كل من المسلسلين، فكلاهما مكتوب بطريقة جيدة جدا، وأداء الممثلين ممتاز، خاصة نور الشريف وعبلة كامل، ورياض الخولي”.
وليست تلك هي الأسباب الوحيدة، وراء المشاهدة المتكررة، بل يضيف إسلام “في مسلسل ريا وسكينة، ثمة عدد من الأغاني الداخلية، من تلحين عمار الشريعي، وكلمات أحمد فؤاد نجم، أما مسلسل عبد الغفور البرعي، فقد ارتبطت منذ طفولتي بطموحه ونجاحه، أردت أن أكون مثله في يوم من الأيام”.
ومشاهدة أعمال درامية بعينها قد يكون معينا وحافزا لأداء المهام الشاقة، كان هذا ما توصلت إليه دراسة علمية ربطت بين ضبط النفس المجهد واستنفاد طاقة التحمل، وبين زيادة الحاجة لمشاهدة أعمال تلفزيونية مألوفة.
وتفسر جاي ديريك، الباحثة في مركز الإدمان بجامعة بافالو، هذا السلوك بقولها “هناك ما يسمي التفاعل الاجتماعي الإيجابي، والذي يتمثل في مشاهدة برامج أو أعمال بعينها، حيث يساهم انغماس الناس في عالم خيالي مألوف ذي طبيعة اجتماعية في استعادة ضبط النفس بنجاح استعدادا للمهام الشاقة المنتظرة، على عكس التفاعل الاجتماعي المؤذي، أو المجهد الذي يستنفد ضبط النفس، لهذا يبحث الناس عن بديل للتفاعل الاجتماعي، في نهاية الأيام الشاقة، والمواقف المجهدة، لاستعادة ضبط النفس”.
ويرجع هذا لأسباب نفسية بحتة ومتشابهة في كل دول العالم، هكذا تصير مشاهدة مسلسل مثل “لن أعيش في جلباب أبي” بمثابة علاج مجاني للتوتر والقلق، وأحيانا الحالة النفسية السيئة.
والمسألة لها أبعاد نفسية مثبتة في أبحاث علمية، مثل دراسة تشير إلى أن الاندماج في عوالم خيالية بما فيها الأعمال التلفزيونية، وإن كانت مكررة، يساعد المرء على إعادة ضبط النفس.