فقدت الصحافة الفلسطينية في بلادنا يوم الخامس عشر من الشهر الجاري، علما من أعلامها ورائدة من روادها، ألا وهي المرحومة فيدا مشعور، رئيسة تحرير صحيفة “الصنارة” وموقع “الصنارة. نت”، بعد حياة حافلة بالنشاط والعطاء في مجال الاعلام والصحافة، ويعد رحيلها خسارة كبيرة لهذا القطاع الحيوي والمؤثر.
لقد شقت فيدا حُزَينَة، ابنة بيت لحم الفلسطينية طريقها، منذ مطلع شبابها بعصامية تعتمد على نفسها وتحارب المفاهيم البالية والعادات المغلوطة، وسافرت وهي صغيرة السن إلى بيروت والتحقت بالجامعة العربية ودرست فيها وقبل التخرج بفترة قصيرة وقع عدوان حزيران 1967، مما أجبرها على قطع الدراسة والعودة إلى مدينتها بيت لحم، التي تحولت إلى مدينة محتلة من قبل القوات الإسرائيلية.
اقتحمت فيدا حقل الاعلام المزروع بالألغام وكسرت عددا من “التابوهات”، إلى أن تعرفت إلى رفيق دربها فارس الصحافة العربية، لطفي مشعور الذي بات زوجها فيما بعد، وأسسا معا صحيفة “الصنارة” المستقلة و”مكتب الناصرة للإعلام والنشر” وكان لهما صولات وجولات مشهودة في الاعلام المحلي، وبعد رحيل لطفي مشعور عام 2006، تولت زوجته إدارة الصحيفة ورئاسة التحرير حتى يومها الأخير.
وان دلت وفود المعزين التي حضرت إلى الناصرة لتقديم العزاء في رحيل فيدا، والتي جاءت من كل حدب وصوب ومن شتى الانتماءات والمشارب، وضمت شخصيات دينية وسياسية واجتماعية وأكاديمية وإعلامية انما دلت على مدى الاحترام والتقدير اللذين حظيت بهما، لعطائها ومسيرتها الإعلامية، وعلى البصمة التي تركتها وزوجها لطفي في الصحافة الفلسطينية في الداخل، بشهادة جميع من حضر وألقى كلمة العزاء، مستذكرا المرحوم لطفي وزوجته فيدا ودورهما المميز والفريد في عالم الصحافة.
لم يساعدني القدر والظروف بالتعرف إلى المرحوم لطفي في حياته، وبالتالي لم أتعرف إلى زوجته فيدا، إلى أن جمعتنا الأقدار في وقت متأخر. فقد تعرفت إلى فيدا منذ ثلاث سنوات ونيف، عند اتفاقنا على العمل في الصحيفة، حيث كنت قد تركت عملي في مهنة التدريس، وعلمت أن “الصنارة” تبحث عن محرر فيها. ومنذ أول جلسة مشتركة بيننا وجدت بفيدا انسانة قريبة من القلب، ولم أشعر بغربة عنها وهي كذلك، ووجدت في فيدا انسانة متعاونة ومستعدة لسماع رأيي، بل كانت تطلعني على أمور عديدة بالنسبة لعمل الجريدة، مما عزز الثقة بيننا، وكثيرا ما كان الحديث يبتعد عن العمل الى مواضيع اجتماعية وعائلية ومواضيع عامة مما ساعدني على الانخراط في العمل بسرعة لم أتوقعها، حيث رفعت الرسميات بيننا وبتنا كأننا نعيش في كنف أسرة واحدة مع ما يتخللها من توافقات وخلافات ونقاشات وتبادل آراء وفي النهاية قرار لا رجعة عنه لمن يملك مقود القيادة.
كانت فيدا (وكانت تفضل مخاطبتها باسمها دون ألقاب)، مسكونة بالقلق على مستقبل الأجيال الشابة والصغيرة، وما ينتظرها من تحديات ومخاطر في ظل ما نشهده من مظاهر عنف واجرام وتردي اقتصادي وسياسي وما يعتور العالم من أخطار بيئية وغيرها، كما أشغلت تفكيرها مسألة انتخابات الكنيست لما تحمله من تأثير مباشر على المواطنين العرب وكيفية التصويت، ولهذا كثيرا ما أكدت على ذلك في كلمتها الأسبوعية التي كانت تتصدر صحيفة “الصنارة وخير دليل على ذلك ما كتبته في آخر كلمة لها قبل يومين من رحيلها، حيث جاء عنوانها “غليان البركان” وأوردت في مقدمتها ما يلي: ” البلاد تجلس على بركان ملتهب.. حروب ومعارك سياسية، خلافات بين “الأخوة” وبين سياسة الحكومة الجديدة والمواطنين العرب.. وغلاء معيشة..” وتساءلت عن مصير كل تلك الصراعات وما هو مكاننا فيها وإلى أين تذهب بنا.
رحم الله الزميلة والمعلمة والرائدة فيدا مشعور، التي شاءت القدرة الإلهية أن تأخذها تحت رعايتها، قبل أن تشهد تحقق ما توجست منه وتركتنا نواجه أعاصير الحياة وضربات القدر، فهل نحن قادرون على ذلك؟ سنفتقد فيدا ونفتقد جلساتها ونقاشاتها، ونبقى نفتقد حضورها إلى ساعة اللقاء.