صادف الثالث والعشرون من كانون الأوّل/ديسمبر عيد ميلاد سلطان الطرب جورج وسوف؛ حالة فنيّة استثنائية ظلّت حاضرة على امتداد أكثر من أربعة عقود، من دون أن تنال منها تحوّلات الزمن أو تضعفها تقلّبات الأذواق. فبين موجات النجومية السريعة، وصعود الأغنية الاستهلاكية، بقي وسوف حالة قائمة بذاتها، بصوتٍ وأداء وإحساس لم تفلح السنوات في استنساخها أو استبدالها.
هذا الثبات لم يأتِ صدفة، بل كان نتاج مسار واضح المعالم، تشكّل عبر اختيارات واعية وصراحة طبعت شخصيّته الفنيّة والإنسانيّة على حدّ سواء.
من الهامش إلى المركز: البدايات التي صاغت المسار
وُلد جورج وديع وسوف عام 1961 في بلدة الكفرون السورية، في بيت متوسّط الحال وبيئة ريفيّة بسيطة. ومن فضاء المواويل والحفلات الشعبيّة، برز صوته في سن مبكرة، لا سيّما عبر موال “حاصبيا” الذي شكّل نقطة تحوّل في مسيرته. ومع منعه من الغناء في دمشق بسبب صغر سنّه، انتقل إلى لبنان في السادسة عشرة من عمره، في خطوة شكّلت مفصلًا أساسيًا في بناء شخصيّته الفنيّة ومساره اللاحق.
في بيروت، دخل وسوف عالم الفن من أطرافه الهشّة، متنقّلًا بين المقاهي والحفلات الليلية، في ظروف معيشيّة قاسية أصبحت لاحقًا جزءًا من السرد المتداول عن بداياته. من العمل المتواصل، إلى البحث المستميت عن فرصة وسط منافسة شرسة، وحتى النوم على الأرصفة، صعد “الطفل المعجزة”، وهي محطات أسهمت في بلورة شخصيّته الفنّية وبناء علاقة خاصّة مع جمهور وجد فيه انعكاسًا لواقعه اليومي.
ذلك الطفل الذي احتضنته أسماء فنيّة بارزة، في مقدّمتها جورج يزبك ووديع الصافي، تحوّل لاحقًا إلى “سلطان الطرب” مع أغنية “الهوى سلطان” في ثمانينيات القرن الماضي؛ أغنية لم تمنحه اللقب فحسب، بل رسّخت ملامح خطّه الغنائي كصوت طربي كلاسيكي، بعيد عن اللهاث وراء الانتشار السريع.
“أبو وديع”… هويّة تتجاوز الجنسيّات واللهجات
لم يُنظر إلى جورج وسوف يومًا كمطرب محليّ الهوية. فمنذ بداياته، غنّى بلهجات متعدّدة – المصرية واللبنانية والسورية – بحكم حضوره المبكر في أكثر من ساحة فنية عربية وتنقّله بين دمشق وبيروت والقاهرة. هذا التنوّع لم يكن عائقًا، بل شكّل رافعة أسهمت في توسيع قاعدته الجماهيريّة عربيًا، ليُلقّبه محبّوه بـ”أبو وديع”، تعبيرًا عن قرب رمزي يتجاوز البعد الفنّي.
اختار وسوف منذ انطلاقته أن يعرّف نفسه بالصوت والطرب، لا بالشكل أو الأداء الاستعراضي. غنّى لكبار المطربين، من أم كلثوم وعبد الحليم حافظ إلى سيّد مكاوي في “حلوين من يومنا والله”، ثم شقّ طريقه بأعماله الخاصة، متعاونًا مع أسماء بارزة في التلحين، أبرزهم بليغ حمدي في “سلف ودين”، وشاكر الموجي في “طبيب جرّاح” و”بتعاتبني على كلمة”.
ورغم اتّساع شهرته في الثمانينيات والتسعينيات، لم ينخرط في سباق الإنتاج الغزير، محافظًا على إيقاع مدروس ووازن بين الكمّ والجودة.
موقف من زمن الاستهلاك
مع صعود الفضائيات الموسيقية في التسعينيات، وتحوّل الأغنية العربية إلى منتج سريع الاستهلاك، اتّخذ وسوف موقفًا مغايرًا؛ لم يندفع إلى موجة “الفيديو كليب”، وقلّص ظهوره الإعلامي، معبّرًا عن اعتراضه على ما اعتبره تزييفًا للصورة الفنيّة واختزالًا للصوت في قالب بصري استهلاكي.
هذا الموقف، الذي بدا حينها خروجًا عن التيار، تحوّل لاحقًا إلى جزء من صورته العامّة، وأحد أسباب استمراريّته كنموذج لفنّان يرفض “بيع نفسه” أو تحويل فنه إلى مادّة عابرة.
الحياة الشخصيّة ورحلة الألم
لم يكن الألم غائبًا عن مسيرة جورج وسوف. ففي عام 2001 خضع لعملية جراحية في الوركين، ثم تعرّض عام 2011 لجلطة دماغية أدّت إلى شلل نصفي في الجانب الأيسر من جسده، غاب على إثرها عن الساحة الفنية ثلاث سنوات. عاد بعدها في عام 2014 بظهور محسوب، مكتفيًا بجملة تختصر فلسفته: “ما زلت قادرًا على الغناء”.
على الصعيد الشخصي، تزوّج مرّتين ورُزق بأربعة أبناء، من بينهم وديع، الذي شكّلت وفاته في كانون الثاني/يناير 2023 إحدى أقسى المحطات في حياته. ورغم ثقل الفاجعة، حرص وسوف على إبقائها ضمن دائرته الخاصة، منسجمًا مع نهجه في حماية خصوصيّته وإبعادها عن الاستهلاك الإعلامي.
بعد أكثر من أربعة عقود
اليوم، وبعد أكثر من ثلاثين ألبومًا، وملايين النسخ المباعة، وحفلات امتدّت من قرطاج إلى أوروبا والأميركيتين، لا يُستعاد جورج وسوف بوصفه مجرّد صوت من زمن مضى، بل كمسار فني متماسك ظلّ حاضرًا بفعل خيارات واعية وتجربة إنسانيّة قاسية.
في عيده الرابع والستين، لا يبدو جورج وسوف مجرّد “سلطان طرب” بالمعنى الكلاسيكي، بل حالة فنيّة واجتماعيّة متراكمة، يصعب اختزالها في أغنية أو مرحلة، وتبقى استثناءً راسخًا في تاريخ الغناء العربي الحديث.