في مسلسل “امرأة من عالم الموت”.. جمال مرعب وبلدة فاسدة
يقوم المجتمع الشرقي بشكل عام على الأسرة وامتداداتها في العائلة، وهو ما يُشعر الفرد بقوة وأنس ويبقى سندا دائما له. أما المجتمعات الغربية، فتغلب عليها الفردية، حيث علاقات القرابة الضعيفة، والحياة الاجتماعية المنعدمة تقريبا.
ويحتوي التاريخ الاجتماعي الأوروبي -في شمال القارة تحديدا- على روايات عن أشخاص تعلموا في طفولتهم أن الاختيارين المتاحين للفرد؛ هما أن يصبح فريسة أو وحشا، وهو ما أفرزته تقلبات الأجواء وصعوبة العيش بين الغابات والثلوج وخطورة الحيوانات المفترسة المنتشرة في الغابات، بالإضافة إلى خطر الإنسان نفسه على غيره حين يشح الغذاء.
ويرصد مسلسل “امرأة من عالم الموت” (Woman of the Dead) واحدا من هذه المجتمعات، لا تجمع بين أفراده سوى مشاعر الغربة، وبؤس الوحدة، ووحشة المكان، ويكشف كيف يختفي ماضي الفرد الذي يبدو ملائكيا، ومن ثم تكشف الأحداث عن كونه وحشا، لكن المسلسل المميز دراميا وبصريا يطرح مقولته التي تصلح لكل المجتمعات مؤكدا أن الانتقام سلاح يوجهه المظلوم إلى قلبه.
وتدور قصة “امرأة من عالم الموت” الذي يعرض حاليا على شبكة نتفليكس، حول “برومهيلدا بلوم” التي تملك دارا للجنازات، تقوم فيها بتنظيف وتزيين الموتى وحفظهم في التابوت المجهز لدفنهم، والتي تعيش حياة هادئة كأم لطفلين، وزوجة شرطي، قبل أن يُقتل زوجها أمام عينيها ويفر القاتل فتقرر البحث عنه.
تكتشف “بلوم” بسرعة أن بلدتها النمساوية الصغيرة تطفو فوق بحيرة من الأسرار التي تخفي وجوها شريرة للبشر الذين يظهرون بوجوه ملائكية. فتقرر الانتقام، ويستيقظ الوحش بداخلها.
جمال ينذر بالغدر
تدور الأحداث في بلدة صغيرة، تحيطها جبال مرتفعة مكسوة بالثلوج، تتصل أجزاؤها عبر سلسلة طرق وجسور، لكن الانطباع العام يوحي بالفراغ والوحشة، إذ لا يوجد في الشارع سوى الممثلين المشاركين في المشهد.
لا أحد يمر من هذه الطرق والجسور المعلقة سوى سيارات أبطال العمل، وهو أمر طبيعي تماما في بلدة بشمال النمسا قد لا يتجاوز عدد سكانها بضع مئات، وتستعد لتحويلها إلى قبلة لمشروع سياحي كبير يعتمد على هواة التزلج من السياح.
امرأة من عالم الموتى
توحي الجبال بلونها الأبيض الذي يخترقه الأسود والرمادي في بعض المساحات نتيجة ارتفاع درجة الحرارة نسبيا بجمال مخيف، حيث يتأمل البشر كل هذا الارتفاع والاتساع، فيتخيلون الأخطار الكامنة خلف الصمت المطبق، ويشعرون بضآلة أمام الجبال.
البلدة الصغيرة نفسها تحكي قصة البشرية، وتحاكي واقع العالم بشرقه وغربه، إذ تسيطر شركة عائلية على الوادي، وتطمح لتنفيذ المشروع السياحي الطموح في قمم الجبال المحيطة بها من خلال عربات معلقة، لكن شخصا واحدا فقيرا يعيش في بيته وسط أرض المشروع ويرفض بعناد أن يتركه منذ 30 عاما.
لم يتجاهل صناع العمل قيمة المكان، فكانت اللقطات العامة هي الأكثر تكرارا، حتى في مشهد وقوف السيدة المسيطرة وعميدة الأسرة المالكة للوادي فوق قمة الجبل، استخدم المخرج كاميرا “درون” (كاميرا محمولة على طائرة صغيرة) ليصور مشهدا عاما، ظهرت خلاله المرأة ضئيلة جدا وسط درجات اللون الأبيض من الجبل والسماء التي غلب عليها لون السحاب الأبيض الذي انعكس من لون الجبال.
وفي منزل على الطريق، تعيش الأسرة المكونة من أب شرطي وأم تعمل متعهدة دفن موتى، وجدّ تقاعد بعد وقت طويل في الشرطة وطفلين أكبرهما فتاة تقتحم عالم المراهقة بحماقة واضحة.
حوار مع الموتى
تبدو نساء هذه البلدة النمساوية الصغيرة مسيطرات وجادات بالمقارنة بالرجال، ورغم عموم الفساد على جميع شخصيات العمل، فإن فساد الرجال شخصي يتعلق بالنساء والرشوة، بينما تملك إحداهن البلدة، وتقرر الأخرى مواجهة الفساد عبر قتل 5 مجرمين، ليعيش أطفالها في أمان.
وقد قدمت الممثلة الألمانية “آنا ماريا موهي” شخصية “برومهيلدا بلوم” بأداء بسيط لدور شديد التعقيد، ولولا المواجهات غير المقنعة في سياق العمل، لأصبح أداء مثاليا. وجاءت مشاهد “موهي” في قاعة التشريح بدار الجنازات هي الأكثر تعبيرا وتأثيرا، وخاصة مشاهد حوار الموتى معها وعرضهم لأفكار حول الأزمات التي صادفتها في رحلتها للانتقام.
ورغم تعدد الصدمات التي تلقتها “بلوم” -بدءا من موت زوجها المفاجئ أمام عينيها، ثم اكتشافها وجود 5 من القتلة الساديين في البلدة أحدهم رجل دين والثاني أقرب أصدقاء زوجها- لم تبدُ عليها المفاجأة، وتبرر الشخصية الأمر في سياق حوار العمل، مشيرة إلى أن العمل بين الجثث يغلق الطريق أمام الدهشة.
يبدأ المخرج في الكشف عن التاريخ الإجرامي للمرأة بحسابات دقيقة، بحيث تغطي الحلقات الست للعمل. ونلاحظ قسوة والديها أثناء تعليمها التعامل مع الموتى وخياطة أفواههم لتجهيز الجثث للموت، وحبسها في تابوت إذا أخطأت، وانتهاء بقتلها لهم بدم بارد.
وتصاعد عنف الشخصية مع انتقالها من جريمة إلى أخرى حتى وصل إلى ذروته حين أصيبت بطعنة عميقة في النصف الأعلى من ساقها، ورغم ذلك استطاعت النجاة والاستمرار في الصراع وهو أمر أقرب إلى الخيال حتى لو كانت القائمة به قاتلة.
ورغم تاريخه الموصوف بجريمة سرقة، فإن “ريزا شديد” الذي يؤدي دوره الممثل يوسف سويد، هو الشخص الوحيد الذي قدم دورا يحمل قيمة إيجابية في العمل، فقد تمسك بالدفاع عن أبناء صديقه، وعمل مع المرأة في دار الجنازات رغم طردها له أكثر من مرة، وقدم ريزا أداء جيدا رغم بعض الآلية التي شابت حركته، وفقره الواضح في التعبير بملامح الوجه.
لا يوجد أبرياء
وعلى عكس ما تبدو عليه البلدة، فهي فاسدة حتى النخاع (رئيس الشرطة، قسيس الكنيسة، مالكة أراضي الوادي، طبيب المستشفى)، ولكن مؤلف العمل لم يبرئ الضابط القتيل، الذي بدأ القصة بمحاولة إنقاذ فتيات مسكينات وقعن بين أيدي 5 من المعتدين الجنسيين والقتلة، فهو يعلم مسبقا أن زوجته الجميلة قتلت والديها، ويتسامح مع الأمر.
أما صديقه الأقرب الضابط “ماسيم” والذي بدا مثاليا في سلوكه مقارنة برئيس الشرطة الفاسد، فقد كشفت أحداث المسلسل في حلقته السادسة والأخيرة عن كونه زعيم العصابة، بل والأكثر توحشا بين أفراد مجموعة تشكلت منذ سنوات طوال وقتلت الكثير من الفتيات اللاتي اختفين فجأة ولم يحرص أحد على البحث عنهن، بل إن الشرطة لم تتحرك إلا حين بدأ أفراد العصابة نفسها في الاختفاء أو الظهور في صورة جثث بلا روح.
ويبدو المسلسل كما لو كان عملا فنيا ناجحا، صنعه مخرج ومؤلف استطاعا بناء الأحداث بشكل دقيق سواء من حيث الجمال البصري الذي بدا واضحا مع كل مشهد، أو بناء الشخصيات، أو الأداء الرائع للشخصيات بما فيها الأقل ظهورا على الشاشة، لكنه يحيل مشاهده إلى مساحة تتجاوز الترفيه، وبالتحديد إلى التفكير جديا قبل البدء بالانتقام إذا تعرض للظلم، فردود الفعل الانتقامية ليست إلا قتل للروح والقلب قبل قتل أو إيذاء الآخر.
ويقدم المسلسل قصةَ المرأة التي ظهرت في الحلقة الأولى كزوجة محبة وحنونة رغم غرابة مهنتها وعملها على الحافة بين الموت والحياة، ومع تصاعد الأحداث وقرارها بالانتقام، خرج الوحش الكامن من داخلها، فتتبادل الأدوار مع الوحوش وتصبح هي الوحش ويصبحون هم الضحايا.