جونغ-إي.. التخويف من نهاية العالم لعبة لا تنتهي
تعد لعبة التخويف الهواية المفضلة لدى صناع الأفلام التجارية التي تحوّل أغلبها إلى جزء من الثقافة الشعبية الغربية، ومنها أفلام مصاصي الدماء، والقتلة المحترفين، وأفلام الشعوذة، وأيضا الأعمال التي تتعلق بنهاية العالم وما بعدها.
يعزف الاستثمار السينمائي على أوتار مخاوف البشر ورغبتهم في معرفة ما قد يحدث إن نشبت حرب نووية كونية أو وقعت كارثة طبيعية تؤدي إلى نهاية العالم أو على الأقل تصور ذلك، وانضمت حديثا إلى هذه القائمة التغيرات المناخية باعتبارها سببا مرشحا لنهاية كوكب الأرض.
وتقدم السينما الغربية تصورات متشائمة في الأغلب عن عالم ما بعد النهاية، فهو عبارة عن كتل من الحطام، وقلة ناجية من البشر الذين يتحركون في مجموعات صغيرة أشبه بقطعان الحيوانات المفترسة، وصراعات لا تنتهي حول الطعام و المأوى.
انتقل هذا النهج من كبار منتجي السينما الأميركية في هوليود إلى السينما الكورية الجنوبية التي لم تنسخ الخيال العلمي والرعب الهوليودي، لكنها صنعته على طريقتها.
ويمزج الفيلم الكوري الجنوبي “جونغ-إي” (Jung-E)، للمخرج يون سانغ-هو، بين النموذج البشري والآلي في كائن واحد عاش حياته الإنسانية، ثم انتقل إلى المرحلة الجديدة، حيث تم استنساخ سماته العقلية وزرعها في روبوت، ليؤدي وظائف تفوق البشر والروبوتات معا.
وتدور أحداث الفيلم حول الباحثة سيو-هون (كانغ سون-يون) في مختبر للذكاء الاصطناعي مخصص لتطوير الأسلحة والقدرات القتالية، التي تستنسخ دماغ مقاتلة بطلة هي والدتها، في محاولة لإنهاء الحرب القائمة بين المستعمرات البشرية في الغلاف الجوي.
كما تدور أحداث الفيلم في سياق زمني مستقبلي، يتصور فيه المخرج أننا في القرن الـ22، وأن الأرض قد تعرضت للدمار بفعل التغيرات المناخية، ووجد البشر بديلا بإقامة مستوطنات في الفضاء.
مرآة الإنسان
يبحر الخيال السينمائي إلى ما بعد نهاية الكوكب عبر التقدم العلمي والتكنولوجي، وينسج القصص حول عالم جديد تتشكل ملامح العيش فيه عبر التكنولوجيا والمعادن، وقد غيرت تكنولوجيا الاتصالات والرقمنة وجه العالم في الواقع وفي الفن.
وفي الفيلم الكوري “جونغ-إي” رأى المخرج أنه بحاجة إلى أقل من ساعة بقليل ليقدم تاريخ الشخصيات ويعرض واقع الحال، لينطلق بعد ذلك إلى سرد قصة العمل نفسها، وهي مدة طويلة للغاية وقد تصيب المشاهد بالملل، خاصة إذا علمنا أن القصة نفسها التي تحكي تصور نهاية العالم بهذا الشكل لا جديد فيها، فقد تناولتها عشرات الأفلام من قبل.
يطبق بعض السينمائيين قواعد السرد على الآلات كما يطبقونها على البشر، ولعل أطرف ما يمكن مشاهدته في الفيلم كدليل في هذا السياق هي الاشتباكات بين الآليين، حيث يتلقى الروبوت ذو الوجه الحديدي لكمة في وجهه أو يخنقه روبوت آخر أو حتى إنسان، فيسقط أرضا أو يصاب بكدمة في الوجه الحديدي، رغم أن الحديد لا يمكن خنقه والقبضات لا تؤثر في الوجوه المعدنية، وهو ما بدا استسهالا من قبل صناع العمل.
ثمة إبداع واضح على المستوى البصرى، سبق إليه المخرج مستخدما الذكاء الاصطناعي، حيث قدم مشاهد المعارك في الهواء والقفز من القطارات بشكل يعدّ جديدا إلى حد كبير، وإن ظلت المشاهد شبه مظلمة في أجواء تعكس غياب الشمس عن الفيلم تماما.
الأمومة والعدالة
لا يكاد يخلو عمل فني كوري من استعراض أزمة الظلم الاجتماعي، والتمييز الاقتصادي، وقد ظهر ذلك في الفيلم بشكل قاس جدا، إذ اضطرت أسرة المقاتلة الأسطورية إلى أسوأ اختيار ممكن لابنتهم بعد موتها.
وطبقا لنظام العالم الجديد، يمكن للشخص أن يدفع ثمن استنساخ نفسه، ليعاد بجسد معدني، ويعامل كإنسان بهويته، ويمكن أن يستنسخ ويعاد في مجموعة نسخ للاستخدام الحصري ويعامل كإنسان أيضا، أما الاختيار الثالث فهو استنساخ الشخص واستخدامه طبقا لما تقرره الشركة على أن يُدفع المال لأسرته، وفي هذه الحالة يفقد صفته الإنسانية.
ورغم أن الأم “جونغ-إيون” مقاتلة أسطورية، دفعت حياتها ثمنا لحماية مجتمعها، فإن أسرتها لجأت إلى الاختيار الثالث بسبب الفقر، وهو ما تكرر فيما بعد مع الابنة التي أصيبت بالسرطان، ووضع المسؤول أمامها الخيار الثالث، مشيرا إلى أنها لا تملك المال للاختيارين الأولين.
بعد نحو ساعة من بداية الفيلم، يتوقع أن تبدأ مشاعر المشاهد بالتفاعل مع العمل، حيث ندرك أن طفلة كان ينبغي أن تجرى لها جراحة دقيقة، والطبيعي أن ترافقها الأم، لكن هذا لم يحدث بسبب نداء الواجب، إذ تخوض الأم معركة خطيرة ضمن حرب التحالف ضد المستعمرات المارقة عليه، فتصاب الأم إصابة بليغة تؤدي إلى اليأس من إفاقتها.
تُنسخ القدرات الذهنية والنفسية للأم، وتباع مقابل رعاية الابنة التي كبرت وتحولت إلى باحثة في مختبر الذكاء الاصطناعي لتطوير القدرات القتالية، وتبدأ باستخدام نسخة من عقل الأم وقدراتها لتطوير آلة قتل يمكنها أن تنهي الحرب.
يصعب تمييز الإنسان عن الروبوت في عالم “جونغ-إي”، فقد أوضح صناع العمل في منتصف الفيلم تقريبا أن مدير مختبر كرونويد الذي تعمل الابنة فيه هو نسخة صنعها المالك من نفسه، وحتى المدير نفسه لم يكتشف أنه آلي وليس بشريا إلا في نهاية العمل.
تمارس الباحثة قيادتها للفريق في تجارب محاكاة المعارك يوميا في محاولاتها لتطوير الأم/آلة القتل، واكتشاف قدرات جديدة داخل عقلها لتلافي الأخطاء التي يمكن أن تؤدي إلى الهزيمة، ولكنها تفعل ذلك بعاطفة شديدة ودموع لم تجف طوال العمل.
تنتهي الحرب، وهو ما يشكل صدمة لمدير المختبر الذي يرى أن دوره قد انتهى، وصدمة للباحثة الابنة التي تتوقع أن تحرم من رؤية والدتها يوميا ولو في إطار استخدامها كآلة للتجارب الحربية.
استغلال رأسمالي
يقرر المسؤولون تغيير أهداف المختبر لتطوير الذكاء الصناعي لأهداف منزلية، وتذهب الباحثة لرؤية النسخة الأصلية من والدتها للمرة الأخيرة، فتفاجأ بنموذج الأم المقاتلة وقد ارتدى ملابس خليعة بينما تعاد برمجته ليصبح صالحا للترفيه وليس القتال، فتقرر محو نسخ والدتها والإبقاء على نسخة واحدة ومنحها الفرصة للهرب.
تكمن صعوبة القبول بمعارك الفيلم في كونها مناقضة تماما لجوهر العلاقة الحزينة والدافئة في الوقت ذاته بين الأم الميتة إلا قليلا والابنة التي تحاول أن تستعيد لحظة الطفولة أمام غرفة العمليات، ووعد والدتها لها أن تلتقيا بعد الجراحة التي أجريت لها.
ثمة جمال وشجن يتخلل معارك أشبه بسلاسل معارك ألعاب الفيديو القتالية، حتى إن الوحوش الآلية التي يفترض أنها تطورت وتجاوزت فكرة السير على قدمين أو حتى 4 ما زالت تسير عليها، بينما تمارس الملاكمة وإطلاق النار من بنادق آلية، وهو خليط غير منسجم من التصور الكلاسيكي والفكر الحداثي لصناع العمل.