بعد رحيله بـ 174 عاما.. إدغار آلان بو ممثلا في “العيون الزرقاء الشاحبة”
تختلف أشكال تكريم الرواد الأحياء في مختلف المجالات سواء الفن أو الأدب أو العلم، لكنها لا تخرج في أغلب الأحيان عن خشبة مسرح وشهادة تقدير، وقد تشمل مبلغا ماليا، أما الرواد الراحلون فقد تطلق أسماؤهم على شوارع أو ميادين أو جامعات.
لقد خالف المخرج سكوت كوبر كل التوقعات حين قرر تكريم الشاعر والصحفي ورائد الخيال البوليسي في الثقافة الغربية إدغار آلان بو على طريقته الخاصة من خلال فيلم “العيون الزرقاء الشاحبة” (The Pale Blue Eyes)، الذي يعرض حاليا على شاشة نتفليكس، حيث قدمه كشخصية روائية وفي دوره التقليدي المعتاد، وهو حل لغز سلسلة من حوادث القتل يتعرض لها دارسون في إحدى الأكاديميات العسكرية في نيويورك في منتصف القرن التاسع عشر.
فيلم “العيون الزرقاء الشاحبة” مأخوذ عن رواية بالاسم نفسه للكاتب لويس بايارد نشرت عام 2003 وحققت نجاحا كبيرا ورشحت لعدد من الجوائز، منها جائزة إدغار آلان بو الأدبية.
تتميز الأفلام التي وجدت طريقها للشاشة عبر رواية أدبية بالعمق، والاهتمام بتفاصيل الفضاء العام للحدث، وهو ما تحقق في العمل حيث نقل المخرج سكوت كوبر أجواء أكتوبر في نيويورك حيث البرد والثلوج تغطي كل شيء والبشر يسعون في عالم رمادي تماما.
تبدأ أحداث الفيلم في أكاديمية ويست بوينت العسكرية في نيويورك حيث يكتشف الحراس جثة طالب شاب تتدلى من حبل قبالة ساحة العروض العسكرية، ورغم قسوة النظام المعمول به في المؤسسة العسكرية فإنها المرة الأولى التي يقْدم خلالها طالب على الانتحار، لكن ساعات قليلة تمر ليكتشف المسؤولون أن الجثة تم شقها من الجهة اليسرى للصدر ونزع القلب جراحيا بيد خبيرة.
يستدعي مدير الأكاديمية محققا مستقلا يدعى “أوغسطس لاندور” (الممثل كريستيان بيل)، وهو محقق شرطة سابق، اكتسب بعض الشهرة خلال سنوات عمله في مدينة نيويورك قبل تقاعده في مرتفعات هدسون بسبب عمله. وأثناء التحقيق يلفت نظره طالب وشاعر شاب متقلب المزاج إلى حد كبير، لكنه متقد الذكاء، فيطلب منه مساعدته في التحقيق. هذا الشاب هو إدغار آلان بو.
من إدغار آلان بو؟
هو صحفي وشاعر وقصاص من الطراز الرفيع، ويعتبر رائد النوع القصصي البوليسي المعروف اصطلاحا بالخيال البوليسي (Detective Fiction)، وهو من أوائل الكُتاب الذين أرادوا كسب قوت يومهم من الكتابة.
اتسمت حياته بالبؤس منذ بدايتها، حيث هجر والده الأسرة بعد ولادته عام 1808 بعام واحد، وتم تبنيه من قبل أسرة اكتسب لقبها، ولم يوفق في الالتزام بأي نظام تعليمي، حتى أنه تطوع للخدمة بالجيش، لكنه لم يستطع الاستمرار.
عرف منذ الصبا بعبقريته في كتابة الشعر حتى أن قصيدته “الأعراف” التي تعد من أطول القصائد التي كتبت في تلك المرحلة (422 بيت شعر).
تعد هذه القصيدة واحدة من درر الشعر الإنجليزي حتى الآن وقد استلهم اسمها ومعانيها من القرآن الكريم، كما أخبر هو بنفسه الناشر.
لا تقل عبقرية بو في القصة القصيرة عن تلك التي ظهرت في الشعر، وخاصة القصص البوليسية التي سار على دربها كل من كتبوا ذلك النوع بعد ذلك وبينهم أجاثا كريستي وغيرها.
واجه إدغار آلان بو نقدا حادا في عصره حتى أنه عرف بالشاعر الملعون بين النقاد، وعاش في فقر مدقع لسنوات لم تطل، فقد انتهت حياته في أحد المستشفيات بكاليفورنيا.
تتجلى المأساة الحقيقية في حياة إدغار آلان بو في وفاة زوجته فرجينيا، التي تزوجها وهي في الخامسة عشرة، وبعد رحيلها غرق في حالة حزن استمرت حتى وفاته عام 1849.
سحر
تميزت القصص البوليسية لإدغار آلان بو بالتعقيد، والذكاء الشديد، ولم يتجاهل كل من الكاتب الروائي لويس بايارد والمخرج سكوت كوبر تلك الصفات في تناوله كشخصية، حيث جاء دوره ليمثل انقلابا تاما في حل لغز الجثث التي توالت في أكاديمية ويست بوينت العسكرية.
بو لم يقتنع بما كشفه المحقق لاندرو، لكنه كشف في النهاية أن المحقق نفسه هو القاتل، إذ تعرضت زوجته للاغتصاب والقتل من قبل جنود ويست بوينت، وقد انتقم لهما، وجاءت المفارقة حين تم استدعاؤه للتحقيق في الجرائم التي ارتكبها، لكن طبيب الأكاديمية وعائلته يتورطون في انتزاع القلوب التي يحتاجونها لعلاج ابنتهم المريضة في طقس سحري بعد أن عجز الطبيب عن علاجها بالطرق التقليدية.
ولعل ذلك الكشف المبهر والمأساوي أيضا الذي قامت به الشخصية الروائية هو جوهر التكريم الذي حصل عليه الشاعر الأميركي، رغم أن أداء الممثل هاري ميلينغ الذي قدم الدور لم يكن أفضل ما يمكن الحصول عليه، لكن الأمر نفسه ينطبق على بطل العمل كريستيان بيل، الذي قدم انفعالات خافتة، وكأن أجواء الظلام التي كانت تعم نيويورك في ذلك الحين قد انعكست على مشاعره فأطفأت شعلتها رغم تعرض زوجته وابنته للقتل والاغتصاب، لذلك جاء غضبه ممزوجا بمرارة هادئة ويأس صادق، وشخص يطمح من جرائمه إلى سماع المعتدين يعترفون بما فعلوه ثم يقتلهم بهدوء ويعلقهم على شجرة في وضعية المنتحرين.
يجمع الفيلم في ألوانه وموسيقاه بين الشجن والحنين، ورغم ظهور موسيقى البلوز تاريخيا في بداية القرن العشرين فإن المخرج استخدمها لدعم الأجواء الحزينة، في فيلمٍ تدور أحداثه قبل منتصف القرن التاسع عشر بقليل. والمعروف أن هذا النوع من الموسيقى ينتمي في أصوله إلى أفريقيا ويعبر عن مزاج حزين.
وجاء الضوء الأصفر القادم من الشموع والمصابيح التي تعمل بالوقود مع الغطاء الضبابي الكامل لتتشكل عبر كل ذلك لوحة ممتعة بقدر كآبتها ومبهجة بقدر الحزن الذي يشع من الشاشة. أتقن صناع العمل عرض التفاصيل المتعلقة بالبيئة لدرجة أن الاندماج في حالة الفيلم قد يصل معه شعور بالبرد الشديد القادم من الجليد الذي يغطي جزءا كبيرا من الشاشة.
رغم القليل من الملاحظات، فإن الصدق الفني الذي يميز العمل جعله يليق بشاعر وأديب سبق عصره، فتعرض لنقد لا يرحم، ومات في الأربعين وحيدا حزينا.