فيلم “الدفن”.. نقد الرأسمالية والعنصرية في قالب من الكوميديا الذكية
الفيلم من بطولة كل من جيمي فوكس وتوم لي جونز في عودة قوية لكل منهما، الأول بسبب وعكة صحية ألمت به بشكل مفاجئ وغيبته عن الوعي لفترة طويلة، والثاني غاب عن الشاشة الكبيرة منذ 2020.
قصة حقيقية تحييها السينما
فيلم “الدفن” الذي حصل على تقييم 90% على موقع “روتن توماتوز”، مقتبس من مقالة نشرتها “ذا نيويوركر” عام 1999 تحت نفس العنوان للكاتب “جوناثان هار”، وكل من المقالة والفيلم يدوران حول قضية أحدثت ضجة كبيرة في الجنوب الأميركي.
يعرفنا الفيلم في البداية على بطليه، الأول “جيرمي أوكيف” الذي يقوم بدوره توم لي جونز، رجل في الـ75 من عمره، يمتلك دور جنائز متعددة في الجنوب الأميركي، وله 13 من الأولاد والبنات، كلهم متزوجون، وأنجبوا، ليصبح على رأس قبيلة قوامها أكثر من 70 فردا، ولا يحلم سوى بترك إرث مادي كبير لهم، يليق بعمره الذي قضاه في الاستثمار بالشركة التي ورثها عن والده منذ سنوات طويلة.
يظهر المحامي ذو الأصول الأفريقية “ويلي غاري” ويؤدي شخصيته جيمي فوكس، وهو رجل عصامي بدأ مسيرته نتاج العنصرية التي وقعت عليه عند رفض أحد ملاك المباني تسكينه بسبب بشرته السمراء، فيتوجه لدراسة القانون، ويعمل في المحاماة ليحقق ثروة طائلة، بالإضافة لحياة عائلية مستقرة.
يبدو حياة كل من جيرمي وويلي في مسارين متوازيين لا يمكن أن يتقاطعا، وذلك حتى يتم الاحتيال على جيرمي من إحدى الشركات العملاقة في مجال الجنائز، والتي تحاول إخراجه من السوق وإفلاسه حتى تستولي على عمله.
على الرغم من اختلاف عرق الرجلين، فإن كليهما من خلفية عصامية شريفة، حقق نجاحه بفضل مجهوده، وفي خندق واحد أمام القوى الرأسمالية والشركات التجارية الكبرى.
يبدو من أول وهلة فيلم “الدفن” كفيلم محاكمات عادي، ينتقد الرأسمالية التي تُخضع أصحاب المشاريع العائلية للشركات متعددة الجنسيات، وتستغل أموال الفقراء لتغذية شراهة رؤسائها من مالكي اليخوت والطائرات الخاصة، ولكن يتقاطع نقد الرأسمالية مع نقد آفة اجتماعية أخرى وهي العنصرية والتمييز على أساس العرق.
العديد من الأفلام التي مزجت العنصرية بثيمة المحاكم مثل “وقت للقتل” (A Time to Kill) في منتصف التسعينيات و”قتل طائر بريء” (To Kill a Mockingbird) سلطت الضوء على جهود المحامي الأبيض لتبرئة المتهم الأسمر من الجريمة، ولكن في فيلم “الدفن” العكس هو ما يحدث بالضبط، فالبطل ذو الأصول الأفريقية هو حامل لواء العدالة.
الحلم الأميركي الأسود
على مدار تاريخ السينما، تم إنتاج العديد من الأفلام التي تدور في أروقة المحاكم، وتعتمد بشكل أساسي على شخصيات المحامين التي تجذب المشاهدين لاتخاذ موقف من القضية المطروحة، ولكن فيلم “الدفن” قدّم هذا الموضوع بشكل مختلف، لأنه لم يهتم فقط بما يدور أمام القاضي، ولكن بالعلاقة التي تم نسجها بين المحامي وموكله، جيرمي وويلي.
استدعت هذه العلاقة الخروج من المحكمة التي جرت العادة في هذا النوع من الأفلام على التصوير فيها فقط، وهو ما فتح أمام الفيلم أفقا أوسع لاستعراض المدينة التي تقع في الجنوب الأميركي، ليبرز التصوير السينمائي الفرق بين الجانب الأبيض الثري من المدينة، والجانب الأسود الذي يعيش أفراده في فقر.
قدمت المخرجة ماجي بيتس المشاهد الافتتاحية في ضوء الشمس الساطع أثناء حفل تقيمه عائلة جيرمي، بينما ينتهي الفيلم في المناطق النائية المحيطة بالمدينة، حيث تعيش عائلة ويلي، وكذلك الأسر الفقيرة التي يتم استغلالها، وهنا تنخفض الإضاءة وتتركز على وجه الشخصيات التي تتحدث عن مأساتها، ليبرز هذا التضاد في الصورة باستخدام الإضاءة بين الطبقتين الاجتماعيتين، الأولى البيضاء الثرية تحيا ويتم تصويرها في النور، بينما الفقيرة تسود عالمها الظلمة.
لعبت الموسيقى التصويرية كذلك دورا في السرد ولم تكن مجرد عنصر مكمل، فالمحامي ذو الأصول الأفريقية يفتخر بالموسيقى التي ينتجها أفراد عرقه، والتي يمكن تمييزها بمجرد سماعها، تُظهر أهمية هذه الموسيقى والمغزى وراءها وضوحا في المشهد الذي يحكي فيه قصة طرده من المنزل الذي رغب في استئجاره.
واستخدمت فيه المخرجة أغنية “أشعر براحة” (Feels Good)، ثم تكرر استخدام نفس الأغنية في الفصل الأخير في الفيلم الذي شهد انتصار جيرمي، ولكن هذه المرة على لسان الأخير، ليقوم الرجل أبيض اللون باستعارة الموسيقى الخاصة بالمحامي الأسود كدليل على قوة العلاقة بينهما، وكذلك في استخدام الفن لتفتيت الحواجز بين الأبيض والأسود طالما يتحدان في مواجهة الرأسمالية.
اعتمد فيلم “الدفن” على أداء جيمي فوكس للشخصية التي تحمل تناقضاتها الخاصة، فهو رجل ناجح متباهٍ، يعشق الأضواء المسلطة عليه، ولكن في الوقت ذاته يحمل حسا اجتماعيا قويا يجعله يدافع عن المظلومين أيا كان لون بشرتهم، فتعالى عن العنصرية التي تعرض لها من أجل إنقاذ جيرمي الأبيض.
ولكن عانت كل الشخصيات الأخرى من التهميش بجوار شخصية “ويلي”، فعلى سبيل المثال لم يظهر أي من أبناء جيرمي كما لو أن والدهم لا يخوض معركة تعتمد عليها حياة الأسرة.
بينما تم إفراد مساحة محدودة للغاية لكل من زوجتي جيرمي وويلي ومحامية الخصم “مامي”، التي يحمل اسمها دلالات أوسع من مجرد كونه اسما تقليديا. فهو يحيل أذهان المشاهدين لأشهر شخصية حملت هذا الاسم في تاريخ السينما وهي “مامي” من فيلم “ذهب مع الريح” (Gone with the Wind).
تلك الشخصية التي عملت خادمة للعائلة الجنوبية خلال الحرب الأهلية، وظلت تناصرها، ويعتبرها النقاد حتى الآن مجرد “صورة نمطية” روّجها صناع الأفلام البيض للشخصيات السمراء، وهو الأمر الذي تقوم به أيضا محامية الخصم بهذا الفيلم، فهي تدافع عن رجل أبيض يسرق أموال الفقراء بكل أريحية.
فيلم “الدفن” عمل يبدو لأول وهلة تقليديا مثل أي فيلم تدور أحداثه في أروقة المحاكم، ولكن مخرجته أحدثت تغييرات بسيطة صنعت كل الفرق، فحوّلته إلى عمل يحمل قضايا كبيرة، ولكن في الوقت ذاته شديد التسلية.